مثلما توجد شرائط كاسيت "ماستر" و"شعبي"، ومثلما تنتشر محلات تبيع ملابس "مودرن" ووكالات تبيع الملابس "الشعبية"، وبنفس الكيفية التي تجد بها مطاعم تقدم وجبات "هاي كلاس" وأخرى لا تعرف عن الطعام سوى "الفول والطعمية" وهما يمثلان الوجبة "الشعبية" الوطنية لكل مصري مجدع، أصبح موجودا في مصر الآن- وحصريا- تعذيب "حكومي" وآخر "شعبي"!
أما التعذيب الحكومي فالكل يعرفه وهو - للحق- أنواع ومراتب.. منه ما تجده في وسائل النقل العام على اختلافها "أتوبيسات- قطارات- مترو" والتي تقدم لك "منيو" حافل بكل أنواع التعذيب.. الاختناق والسخونة والحرارة.. الحشر والتلاصق غير الآدمي.. ضربة كوع من زميل لك مقصودة أو غير مقصودة لكنها في كل الأحوال ستجعل إحدى عينيك في انتفاخ البطيخة وبلون الطماطم!.. بل إن قمة التعذيب الحكومي في وسائل المواصلات تبلغ ذروتها ومعاناتها في كونك تظل طوال الطريق مشغولا في الإجابة عن السؤال الصعب "هل تظل بجوار الباب وعندما تصل إلى محطتك تنزل على الفور متحملا في سبيل ذلك آلاف الأرجل التي ستدهسك وهي صاعدة، أم تدخل إلى آخر العربة مؤجلا الدهس إلى وقت نزولك مضيفا عليه قليلا من "التفعيص" والدفع والزق والشتائم من الركاب لأنه "طالما نازل بدري إيه اللي وقفك ورا ؟!"
وهناك التعذيب الحكومي الذي تجده في مصالح ومؤسسات الدولة.. بدءا من الموظف الذي يكاد أن يبصق في وجهك لمجرد أنك تسأله سؤالا بريئا "هو الإيصال الفلاني أدفعه فين"، ونهاية بحال المباني نفسها المتهالكة الصدئة التي - بصدق- تسد نفسك عن الحياة بأكملها وتجعلك في ذات الوقت تتفهم أن الحالة النفسية للموظفين لابد وأن تكون "حضيض" خاصة إذا كان منهم من يدخل الحمامات الحكومية بشكل منتظم.. فهي -والله- تعذيب أظن- وبعض الظن إثم وبعضه صواب!- أنه غير موجود في معتقل"جوانتانامو" شخصيا!
وليس خافيا على أحد أن آخر طبعة من "التعذيب الحكومي" هي تلك المختومة بشعار "الشرطة في خدمة الشعب"، وهو ما كشفت عنه "كليبات التعذيب" التي مارسها بعض ضباط الشرطة في حق عدد من المواطنين داخل الأقسام مقدمين فنونا في التعذيب تنوعت ما بين الضرب على القفا ونهاية بالاغتصاب وكله متسجل على الموبايل تمشيا مع التطور التكنولوجي الذي لم نأخذ منه تقريبا سوى مقاطع البلوتوث الجنسية وكليبات التعذيب هذه!.. دعك من أن أقصى فنون التعذيب الحكومي وأشدها إيلاما وظلما للإنسانية والبشرية وسكان الكواكب الأخرى هو أن هذا الجيل المنكوب الذي ولد في ثمانينات القرن العشرين يرى كل يوم نفس وجوه المسئولين ويسمع ذات تصريحاتهم وكذبهم ونفاقهم لمدة تتجاوز الربع قرن!
أما التعذيب "الشعبي" فالغريب أنه لما بدأ في الانتشار "جاب م الآخر"... عملا بالقول الشائع إنه عليك أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون "الحكومة يعني!".. ونظرة واحدة على صفحة الحوادث والجرائم في الصحف اليومية ستكشف لك أن كثيرا من المصريين أصبح "خلاقا مبدعا" في التعذيب فعلا.. هناك فلاح يذبح جاره بـ"الشرشرة" "وهي آلة حادة تستخدم لجز النباتات لا البشر".. وهناك من يغتصب ثم يقتل ضحيته ثم يغتصبها ثانية.. وهناك من يفجر بطن زميله بزجاجة مكسورة.. دعك من التوربيني الذي فعل ما لم يخطر على الكونت "دي ساد" شخصيا.
ولوهلة يمكنك أن تتصور أن هذا التعذيب الشعبي منتشر بين الفقراء معدومي الحال محدودي التعليم.. لكن إذا كان الأمر كذلك فعلا، فبماذا تفسر ما فعله "طيار وطبيبة بيطرية"- مؤهلات عليا أهه- مع خفير فيلتهما بالقاهرة الجديدة- يعني أغنياء كمان- عندما ربطا الضحية في شجرة وجعلا اثنين من العاملين لديهما يقومان بتعذيب واغتصابه وتصويره فيديو- موضة هي أصل- بل ووضعا الملح وعصرا الليمون على جراح الضحية حتى يتلذذا بسماع صراخه كل هذا لأنهما تشككا في أن الخفير يعاكس الزوجة بالاتصال على الموبايل!
وإذا كان يمكنك أن تستنتج دوافع التعذيب الحكومي على طريقة "شعبي وأنا حر فيه أغسله أكويه"- دون أن تتقبل ذلك أو توافق عليه طبعا-، فما يا ترى الذي يدفع مواطن مصري لأن يعذب مواطنا زيه بالظبط؟ حتى ولو كان أقل منه في المستوى المادي والثقافي، أو حتى لو كان ينتمي إلى نفس طبقته "لاحظ أن حادثة تعذيب الخفير شارك فيها اثنان من العمال"؟
هل يمكن أن تكون الفلوس أو المادة دافعا لذلك؟ ممكن.. هل لأن المصريين بات عندهم يقين بأن الحق لا يعود إلى أصحابه إلا بالقوة- التي تتحول إلى سادية عندما لا تكون هناك ضوابط- وذلك بعد أن أخذ القانون إجازة طويلة بدون مرتب؟ جايز.. هل هو ذلك التفسير الشائع عن تأثير وسائل الإعلام والغزو الثقافي من الغرب وأفلام العنف إلى آخره؟ احتمال..
أم لأن المواطن الذي تمارس عليه الحكومة فنون التعذيب المختلفة لا يجد متنفسا إلا في مواطن آخر يمارس فيه أنواع أخرى من التعذيب "الشعبي" استنادا لنظرية الأواني المستطرقة المعروفة شعبيا بـ"المليان يكٌب ع الفاضي"؟.. كل شيء وارد المهم بس حد يتحرك قبل ما نتحول إلى شعب نصفه "ريا" والآخر "سكينة"!